السلسلة الأولمبية 7: الدورة الرابعة 1908- لندن تسجّل نقلة نوعية وقياسيّة
بعد صفعتين تنظيميتين في فرنسا والولايات المتحدة الأميركية جاءت لندن لتلمّع الصورة وتُعيد للأولمبياد قيمته وما بذل من مجهود لإعادة إحيائه.
زاهر الحلو
ورغم أن نسخة 1908 جاءت للمرة الثالثة متزامنة مع معرض دولي وبأمد تنظيمي طويل بين 27 نيسان/أبريل و31 تشرين الأول/أكتوبر إلا ان المنظمين حرصوا على عدم ذوبان الأولمبياد في ظل الحدث التجاري السياحي كي لا تضيع هويته كما حصل سابقاً.
وأولى بوادر الاهتمام حضور العائلة الملكية في حفل الافتتاح الرسمي في 13 تموز/يوليو وإنشاء صرح رياضي أولمبي مهيب خاص بالألعاب والقيام بحملات ترويجية لزيادة الاهتمام والاستقطاب الشعبي وإدخال رياضات شتوية لأول مرة، وتم تقسيم المسابقات على أربع مراحل زمنية وفقاً للفصول والشهور بالإضافة لبدء وضع قواعد موحدة لبعض المنافسات.
استعداد قياسي
اول استاد اولمبي "وايت سيتي ستاديوم"
حتى عام 1906 لم تكن الألعاب الرابعة أسندت إلى لندن بل كانت روما الخيار حيث التحضيرات أخذت مجراها على قدم وساق للحدث الكبير إلى أن ثار بركان جبل فيسوفياس Mount Vesuvius في 7 نيسان/أبريل العام 1906 ملحقاً دماراً رهيباً بمدينة نابولي الأمر الذي دفع الحكومة الإيطالية لتحويل الأموال المخصصة لتنظيم الاولمبياد، إلى المدن المنكوبة بغية إغاثتها وإعادة إعمارها ما وضعها عاجزة عن تمويل تنظيم الأولمبياد الرابع.
دفع الوضع المستجد اللجنة الدولية لإعادة فتح الترشيح فتنافست مدن لندن وبرلين وميلان فردياً حتى آلت المعركة إلى العاصمة البريطانية بتاريخ 24 تشرين الثاني/نوفمبر العام 1906.
رغم ضيق الوقت ضرع البريطانيون في التحضيرات واستطاعوا بغضون سنتين بناء أحد أهم الصروح الرياضية عالمياً، "وايت سيتي ستاديوم" الذي أقيم في وايت سيتي بسعة جماهيرية بلغت 66 ألفاً و288 متفرجاً وشيد بفترة قياسية هي عشرة أشهر وعد ثورة حقيقية وقتها.
وكان الصرح مجهزاً في حينها لاستقبال مسابقات ألعاب القوى، الدراجات، السباحة، المبارزة، الجمباز، والمصارعة، كرة لقدم، الهوكي على العشب، القوس والنشاب، رياضة لاكروس، وكان طول مضمار الدراجة 666 متراً ومبنياً من مادة الاسمنت، في حين أن طول مضمار ألعاب القوى 536 متراً أي ثلث الميل البري، وهي الوحدة المعتمدة أكثر في بريطانيا للقياس.
واستفاد البريطانيون من تراكم خبرات سنين طويلة في التنظيم والمنافسة الرياضية فعلى سبيل المثال لا الحصر كان اتحاد العاب القوى البريطاني للهواة موجوداً قبل ثلاثين سنة من تاريخ الدورة، وهي ميزة سبقوا بها غيرهم.
وضم أولمبياد لندن 22 رياضة هي بالإضافة إلى ما ذكر، الملاكمة، الغطس، الإبحار، الرماية، الراكيت، شد الحبال، كرة الماء، كرة المضرب، التجذيف، الركبي، التزحلق على الجليد (رياضة شتوية إنما أدرجت وقتها)، سباق المراكب الآلية، Jeu de paume، أي لعبة راحة اليد، كانت تمارس بمضرب، والجدير ذكره أن تصنيف اللجنة الاولمبية الحالية يختلف عن التصنيف الذي اعتمد وقتها، فمثلاً رياضة شد الحبال التي كانت من ضمن ألعاب القوى وقتها، تم لاحقاً ووفقاً لتصنيف معايير اللجنة الأولمبية حالياً، اعتمادها كرياضة مستقلة.
...ومشاركة قياسية
وشهدت هذه الدورة رقماً قياسياً من حيث عدد المشاركين، فبلغ 2008 مشترك ومشتركة منهم سبع وثلاثين سيدة، أما عدد الدول فكان 22 دولة هي: أسترالاسيا (تحالف أستراليا ونيوزيلاندا) النمسا، بلجيكا، بوهيميا، كندا، الدنمارك، فنلندا (كانت من ضمن الوفد الروسي وقتها لكن نتائجها فصلت فيما بعد)، فرنسا، ألمانيا، اليونان، بريطانيا، المجر، إيطاليا، النروج، جنوب أفريقيا، السويد، سويسرا، تركيا، الولايات المتحدة، روسيا، هولندا، الأرجنتين، ولم تسجل أية مشاركة لدولة آسيوية، وكان الوفد البريطاني هو الأكبر يليه الفرنسي ثم السويدي فالأميركي، وتمكنت في النهاية 20 دولة من تسجيل اسمها في جدول الميداليات.
عرض ومشاكل
نظمت لندن أول استعراض اولمبي للوفود - في الصورة بعثة كندا عام 1908
واجهت هذه الدورة التي شهدت أول استعراض للوفود في التاريخ الأولمبي افتتاحاً بحضور الأسرة الملكية وأول ميدالية أولمبية رسمية لروسيا القيصرية حينها، بعض المشاكل في الافتتاح إذ رفض الوفد الفنلندي أن يمشي تحت راية العلم الروسي، علماً أن فنلندا كانت جزءاً من روسيا القيصرية وقتها فسار منفرداً دون علم.
أما الأيرلنديون فكانوا مرغمين على السير مع الوفد البريطاني الأمر الذي أدى لانسحاب العديد منهم وكذلك السويديون الذين رفضوا المشاركة في الافتتاح نظراً لعدم رفع علمهم فوق الملعب.
وانسحب الأمر بطريقة مختلفة على الأميركيين إذ احتجوا على عدم رفع علمهم فرفض حامل العلم وضعه في المكان الملكي المخصص حسب العادات وقتها، إلا أن تحية العائلة الأميركية للوفد الأميركي غيرت الموضوع.
المسابقات الرياضية
سجل اعتماد رياضتين جديدتين على الجدول الاولمبي هما الهوكي على العشب والتزحلق الفني على الجليد، فيما باتت رياضة كرة القدم أولمبية رسمياً للمرة الأولى بعكس الدورة السابقة في سان لويس حين كانت استعراضية.
كما عادت بعض الرياضات ودخلت الجدول الأولمبي بعد غياب عن الدورة السابقة مثل البولو والرغبي والرماية والإبحار علماً أن تلك الألعاب سبق وأن ظهرت اولمبياً في دورة باريس العام 1900، فيما غابت رياضات سبق لها الظهور أولمبياً مثل الغولف ورفع الأثقال اللتين لم يشأ المنظمون إدراجهما.
غالباً ما كانت مسابقات ألعاب القوى الأبرز في الأولمبياد وهكذا كانت في بريطانيا التي لها أصلاً باعاً طويلاً في اللعبة، فاشتملت مسابقاتها على 26 منافسة كان الصراع الأبرز فيها بين الولايات المتحدة وبريطانيا.
وتمكنت الأولى في حينها من حسم المنافسة لصالحها بفوزها بـ16 ميدالية ذهبية وسط اعتراضات دائمة على الحكام الذين كانوا بريطانيين. وقد تحقق في هذه المسابقة وقتها 4 أرقام عالمية و4 أرقام أولمبية.
أما من حيث جديد المسابقات فسجلت مسابقتا البدل ورمي الرمح إطلالتها الأولى، في حين أن في رمي القرص تم تثبيت وزن القرص لدى الرجال على 2 كيلوغرام.
الحادثة الأغرب!
هالسيل منافساً وحده ومحتفلاً بالفوز!
واجهت منافسات القوى الكثير من الاعتراضات أبرزها جاء في سباق الـ400م الذي تعتبر حادثته الأغرب في التاريخ الأولمبي، إذ اتُهم الفائز في السباق الأميركي جون كاربنتر John Carpenter بأنه أعاق منافسه البريطاني ويندام هالسيل Wyndham Halswelle فاستبعد الأميركي وتقرر إعادة السباق.
وفي المنافسة المعادة عدا هالسيل وحيداً دون أي منافس بعد انسحاب المشتركَين الآخرين الأميركيي الجنسية أيضاً تضامناً مع مواطنهما. علماً أن الأميركي المستبعد ركض وفقاً للقانون في بلاده وعليه لم يرتكب خطأ لكن القانون البريطاني مختلف لذا ومنذ ذلك الحين بات يستعان بقضاة وحكام من بلاد مختلفة، كما أنه تم وضع حبال بين الحارات فيما تبقى من منافسات في دورة لندن كي لا تتكرر الحادثة.
نجوم لمعت
عدة نجوم ظهرت في لندن من أبرزها الأميركي ميلفين شيبارد Melvin Sheppard الذي فاز بثلاث ذهبيات في الـ800م والـ1500م والبدل الأولمبي الذي كان (200م+200م+400م+800م)، وقد حقق حين فاز في الـ800م رقماً قياسياً عالمياً، هو 1،52،8 دقيقة، كما سطع أيضاً نجم الأميركي الآخر جون فلاناغانJohn Flanagan ، الذي نجح في الحفاظ على لقبه في رمي المطرقة للمرة الثالثة توالياً فبات أول من يحقق هذا الانجاز في التاريخ الأولمبي.
ولم تقتصر الإنجازات الأميركية على ذلك إذ أن راي إيوري Ray Ewry نجح في الفوز بميداليتين جديدتين هما السابعة والثامنة له أولمبياً حين فاز بمسابقتي الوثب العالي والطويل من وضع الوقوف.
اعتماد مسافة الماراتون
بييتري لحظة وصوله مع تلقيه المساعدة
في سباق الماراتون تم تحديد المسافة بشكل نهائي إذ قيست بين نقطتي الانطلاق والوصول من قصر ويندسور إلى النقطة المواجهة للمقصورة الملكية في الملعب الأولمبي، فوجدوها 42 كم و195 متراً، فتم من حينها اعتماد هذا الرقم تحديداً في الماراتون.
ولم يسلم سباق الماراتون من الغرابة أيضاً إذ أنه عانى الواصل الأول الإيطالي دوراندو بييتري Dorando Pietry قبيل إنهائه السباق من التعب الشديد جداً فانهار مرات عدة فما كان من القضاة إلا أن ساعدوه لاجتياز خط النهاية، لكن بعد ذلك تم استبعاده لتلقيه مساعدة خارجية علماً أنها جاءت من القضاة أنفسهم!
وتم نقل العداء بعدها إلى المستشفى حيث صارع للبقاء حياً فأثّر الأمر في الملكة ألكسندرا فما كان إلا أن منحته جائزة مشابهة لتلك التي نالها الفائز في الماراتون الأميركي جوني هاييس Johnny Hayes وقد تواجه الطرفان مرة أخرى بعد أربعة أشهر ففاز الإيطالي.
أما في الرياضات الأخرى فبات الروسي نيكولاي بانين Nicolai Panin أول من يفوز بذهبية مسابقة التزحلق الفني على الجليد، في حين سيطرت بريطانيا على الملاكمة حاصدة خمس ذهبيات، ونالت أيضاً ذهبية كرة القدم أمام الدنمارك وهولندا، كما تألق سباحو الدولة المضيفة بأربع ذهبيات أمام الولايات المتحدة بذهبيتين فيما استأثر البريطانيون أيضاً بذهبيات كرة المضرب الست، وتفوقوا في المصارعة بثلاث ذهبيات مقابل اثنتين للولايات المتحدة الأميركية، وفازت فرنسا بمسابقة المبارزة بذهبيتين شأن المجر إنما بفارق الفضة، ونالت إنكلترا ذهبية الهوكي التي شارك في منافساتها ست دول بعد فوزها في النهائي بنتيجة كاسحة 8-1 على أيرلندا، علماً أن دول المملكة البريطانية اسكتلندا وأيرلندا وويلز اشتركت بصورة منفردة، لذا نسب الفوز إلى إنكلترا وليس بريطانيا.
نوادر وطرائف
بطل تأسس في مزرعة !
ألبرتو براغليا (1883-1954)
من أبرز الذين شاركوا في الألعاب الأولمبية لاعب جمباز إيطالي تدرب في مزرعة بشكل منفرد حتى سن الثانية عشرة ثم انضم إلى ناد في عمر الـ12. فاز بمسابقة الفردي العامة على كل الأجهزة عانى في حياته من مشاكل عصبية أثرت عليه نتيجة موت ولده في عمر الرابعة.
تعرض في مسيرته لإصابات عدة أبرزها كسور في الكتف والأضلاع. طرد من الاتحاد الإيطالي للجمباز كونه اعتبر محترفاً إثر تقديمه عروض أمام العامة ثم عاد هاوياً العام 1912 حين فاز بالذهبية مرة أخرى في أولمبياد استوكهولم. أحرز في مسيرته 3 ميداليات ذهبية أولمبية.
لا يقهر في الـ 60
أوسكار شوان (1847-1927)
شوان الثاني من اليمين
فاز الرامي السويدي أوسكار شوان بأول ميدالية ذهبية أولمبية له عن عمر الستين عاماً في لندن العام 1908 علماً انه حقق ذهبيتين وقتها، أولاها في الفردي والثانية في الفرق، ثم عاد وفاز ببرونزية وذهبية في أولمبياد استوكهولم 1912.
كما عاد واشترك بعد نهاية الحرب العالمية الأولى عن عمر 72 عاماً و279 يوماً في الألعاب الاولمبية العام 1920 ففاز بفضية ويعتبر أكبر بطل أولمبي إطلاقاً يفوز بذهبية كما أنه الأكبر الذي يفوز بميدالية اولمبية من أي لون كانت.
الشعار الأشهر
أطلق كوبرتان شعاراً وفلسفة اولمبية جديدة استوحاها من صديق أميركي كان يحضر الدورة في لندن "أهم شيء في الألعاب الاولمبية ليس أن تربح بل أن تشارك" وقد كتب هذا الشعار على يافطات وقتها وتم نشره وتوزيعه أمام العالم والناس كي يتم نشر الفكرة والمبدأ علناً.
المسبح الأولمبي
يعد المسبح الأولمبي الذي أقيم مع ستاد "وايت سيتي" أول مسبح أولمبي مقفل في التاريخ، شيد على مقربة من مدينة ويمبلي بسعة جماهيرية بلغت ثمانية آلاف متفرج، بلغ طوله اكثر من خمسين متراً وهي المسافة المعتمدة في المسابح الأولمبية، فتم تقصيره بدرج خشبي وجرت فيه ست مسابقات سباحة في فئتي الحرة والصدر.
ترتيب الميداليات
نالت بريطانيا العظمى المرتبة الأولى برصيد (56 ذ و51 ف و38 ب) أمام الولايات المتحدة الثانية (23 ذ و12 ف و12 ب) والسويد الثالثة 8 ذ و6 ف و11 ب).