السلسلة الأولمبية 3– كيف أحيا كوبرتان الألعاب من جديد؟
تعدّ الألعاب الأولمبية أم المهرجانات الرياضية سناً وقيمة فعليها بنيت الأحداث ومنها اشتقت البطولات ولا لبس بأنها أروع تظاهرة عالمية وأكثرها حشداً على الإطلاق.
زاهر الحلو
تعدّ الألعاب الأولمبية أم المهرجانات الرياضية سناً وقيمة فعليها بنيت الأحداث ومنها اشتقت البطولات ولا لبس بأنها أروع تظاهرة عالمية وأكثرها حشداً على الإطلاق، ففيها يلتقي البشر من مختلف أصقاع الأرض لا دين ولا لون، يجتمعون حيث يعجز أي حدث آخر عن القيام بالمثل.
نسخة مطورة عن أولمبياد الإغريق، مبادؤها ترقى بالإنسان إلى إنسانيته بعيداً عن الضغائن فتكسر الحواجز وتسقط مسببات التفرقة الأمر الذي يؤكد أن اللقاء ممكن دائماً، آمن بمثلها البارون الفرنسي بيار دو كوبرتان، ذلك الارستقراطي النبيل المتعمق بالتاريخ وبالتربية الرياضية، أسرته تجربة الإغريق، ودفعته بعض المحاولات الحديثة في اليونان الحديث وإنكلترا، فصب جهوده، وكانت قيامة الألعاب الأولمبية الحديثة.
كوبرتان الحاذق
تميز كوبرتان (1863-1937م) منذ نشأته بنظرته المتميزة الحاذقة وولعه بالرياضة وأفكاره التقدمية فكان يشعر بالملل من حصص التربية الرياضية المدرسية الفرنسية معتبراً إياها تعبيراً عن فشل النهج التربوي السائد آنذاك وعقمه الواضح، فمال للتنقيب عما يدخل عنصر المتعة في الرياضة.
بعد قراءات وأبحاث خصوصاً في المكتبات الإنكليزية، استلهم أفكاراً ثورية تساهم في بث روح الفرح والمتعة بين التلامذة، وتعمل في الوقت نفسه على تطوير ما يمتلكون من قدرات بدنية، اعتبرها كوبرتان في خلفيته الثقافية وقناعته الفكرية الأساس في النهوض بأي مجتمع والسبيل الوحيد في شد أواصر اللحمة إن كان على نطاق بيئة صغيرة أو على نطاق عالمي.
استمد كوبرتان في حياته نظرياته التربوية من جمعه بين اختصاصي التربية الرياضية والتاريخ، وهو الذي درس في بريطانيا موفداً من بلاده العام 1887، فاستطاع هناك استخلاص العبر مستفيداً من احتكاكاته بـ ديني بروك مؤسس أحد الألعاب المحلية، وبـ أرنست كورتوس، عالم الآثار الضالع بتاريخ الإغريق.
كما كان تأثر قبل ذلك بالمعلم توماس أرنولد، وبقدرته على بث الفرح والبشاشة التي كانت تعتلي محيا التلامذة في حصص التربية الرياضية في بريطانيا، حيث وجد ألعاباً عدة تثير الطالب وتحفزهم وتبعدهم عن أجواء الملل والرتابة وهو اعتبر في هذا الصدد أن التلامذة الفرنسيين لا يمرحون لأن لا ألعاباً تبث المرح في نفوسهم.
شكلت تلك التجارب الباعث الأساسي لدى كوبرتان، فكان أفق رؤيته بعيد المدى عميق الامتداد، فبعد أن آمن بالمثل اقتنع أن للرياضة أدواراَ شتى، أبرزها تكوين مجتمع رياضي صالح و سليم، وهو الذي ضاق ذرعاً من أفكار سادت في القرون الوسطى تدعو لاحتقار الجسد وكان يعتبر دائماً أن الروح والجسد لا ينفصلان، وذهب بطروحاته، مستنبطاً من تلاقي طلبة المدارس من كل حدب ببهجة، بفكرة تنظيم مهرجان رياضي يلم شمل الدول ويوقف الحروب ويبث السلام والوئام.
وشكلت كانت تلك الدوافع بالإضافة إلى التأثر الشديد بما ابتدعه الإغريق الأساس "للثورة الكوبرتانية" التي استسخفها الكثير في بدايتها فكان أن أمست جامعة المتناقضات من أصقاع الأرض.
نفض غبار وخطوة أولى
يعتبر كوبرتان مما تقدم واضع أسس الألعاب الأولمبية ومحييها، سبقته بعض المحاولات إنما في إطار أضيق نفضت الغبار جزئياً عن تراكم السنين، وساهمت مع الوقت في بلورة رؤية الفرنسي، مثل تنظيم ألعاب أولمبية في بريطانيا منذ العام 1610 عرفت باسم "ألعاب كوستوود" في منطقة "شيبينغ كامبدن" كانت تجري كل يوم جمعة مصادف بعد الأول من حزيران/يونيو، اتسمت بلعبة خاصة عرفت باسم شين كيكنغ، وبمهرجانها الختامي الحافل الذي كان يشتمل على الرقص والأزياء الخاصة والعرض الناري.
ولم تكن تلك الألعاب الوحيدة فقد زاد التأثير في البارون مهرجانات أخرى مثل تنظيم وليام بروكس ليوم أولمبي وطني في بريطانيا في كريستال بالاس منذ العام 1850 حيث انطلقت مهرجانات ألعاب وينكلوك أولمبيك وما زالت مستمرة حتى يومنا هذا، ونظم منها 120 مهرجاناً حتى الآن، وقيام الثري إيفانجليس زاباس، بتمويل إحياء فكرة الألعاب في اليونان العام 1859حيث جرت عدة مهرجانات وطنية آخرها العام 1888، وخلالها قام زاباس بإعادة تأهيل ملعب باناثينيان حيث جرت الألعاب، وقد استخدم هذا الصرح بعد تأهيل آخر في أولى الألعاب الأولمبية الحديثة.
وزاد من تحفيز الفرنسي واندفاعه أمران آخران؛
تمثل أولاهما بالتنقيب الذي شهدته اليونان من بعثات مختلفة أجنبية ومن اليونانيين أنفسهم وخصوصاً بعد استقلالهم في القرن التاسع عشر حيث تم الكشف عن آثار أولمبيا، خاصة عبر بعثات ألمانية، الأمر الذي أحيا حضارة الإغريق فتفتحت عينا كوبرتان أكثر وهو المقتنع بالرياضة كأساس في بناء مجتمع قوي.
أما ثاني الأمرين، يتمثل بعدم إيجاده سبباً لهزيمة الفرنسيين، أمام البروس في حرب البلدين (1870-1871م) في القرن التاسع عشر سوى الضعف البدني لدى أبناء شعبه مقارنة بصلابة رجال الدولة القيصرية آنذاك وقوة شكيمتهم، علماً أن أحد أهدافه كان القضاء على الحروب.
إذاً تعددت العوامل التي أسهمت في بلورة رؤيا "نبيل فرنسا" فأتت أفكاره ناضجة مستوية لكن كان لا بد لها من نقطة أو قاعدة تشكل مرتكزاً للانطلاق، فليس من السهل تغيير أفكار وإن كانت خاطئة تسود رؤيا أغلبية معينة و بدلها إحلال رؤيا صحيحة يمتلكها فرد، أو اليسير من الأشخاص.
من هنا سعى بما امتلك من علاقات بناها من سفرياته ومن قوة نفوذ داخل فرنسا لتنظيم مؤتمر لطرح قضاياه بإطار عالمي، فأتت ثمار جهوده المضنية على قدر لا بأس فيه من النجاح إذ تمكن من بلورة أول مؤتمر دولي العام 1893 تباحث فيه مع موفدين أوروبيين وأميركيين في قضية الاحتراف الرياضي والهواية وسعى لطرح الفكرة الأولمبية، فشكل هذا المؤتمر خطوة نحو البحث في الرياضة الأولمبية.
نصر غيَّر وجه الرياضة
بعد ذلك كان النصر الحقيقي لكوبرتان حين عقد بين 16 و23 حزيران/يونيو مؤتمراً دولياً في جامعة السوربون في فرنسا استطاع البارون في آخر يوم فيه من انتزاع موافقة المندوبين الممثلين لـ13 دولة وكان عددهم 79 مندوباً بتنظيم أول دورة أولمبية حديثة، وقررت حينها في أثينا اليونان العام 1986، وبات يعرف هذا اليوم باليوم الأولمبي العالمي، ولهذه الغاية شكلت أول لجنة أولمبية دولية لتنظيم هذا الحدث، قد ترأسها اليوناني ديمتريوس فيكيلاس الذي نجح في انتزاع حق استضافة أول دورة في بلاده ذلك أن المقررات كانت متجهة لتنظيم أول دورة في فرنسا العام 1900 لكن فيكيلاس أقنع الجميع بأحقية بلاده في استضافة هذا الحدث.
وجاء تشكيل أول لجنة أولمبية دولية من المندوبين الموجودين بمجلس مكون من أربعة عشر عضواً هم: اليوناني فيكيلاس رئيساً، و كوبرتان، إضافة لأعضاء من الدول التي شاركت وهي السويد وإيطاليا وبلجيكا ونيوزيلاندا والمجر وبريطانيا، التي مثلها شخصان، وبلجيكا والأرجنتين وبوهيميا وروسيا وأميركا وبعد نهاية ألعاب أثينا خلف كوبرتان فيكيلاس بالرئاسة وفقاً لم كان متفقاً ورجوعاً للأطر التنظيمية الموضوعة وبقي حتى العام 1925، وبات تشكيل هذه اللجنة نصراً رياضياً غير وجه الرياضة العالمية، مشكلاً حجر الزاوية لكل ما قدمته السنون لنا فيما بعد من رقي في الرياضة.
شحّ مادي وصعوبات
واجهت أولى الدورات صعوبات جمة وكانت مهددة بالإلغاء أو النقل لشح الموارد المالية اللازمة لتنفيذها لدى اليونانيين، ووصل الأمر إلى حد اليأس من إمكان تنظيمها، وكان في هذا الوقت كوبرتان موجوداً في اليونان ساعياً بكل قدراته لإنجاح الدورة وتنظيمها.
وقد قال فيكيلاس حينها إنه إذا لم تقم الدورة في اليونان فإنها لن تقام أبداً، وشنت الصحف المحلية حملة مؤازرة كبيرة لتنظيم الدورة، وهجوماً على الحكومة الرافضة بحجة قلة المال، لكن تغيرات تمثلت باستقالة رئيس الحكومة آنذاك، جاءت مثمرة مع التأييد الذي حمله رئيس الحكومة الجديد، بعكس سلفه، بالإضافة لوجود دعم ملك اليونان حينها جورج الأول، والصحافة المحلية، فكان أن شقت أول دورة طريقها نحو النور مع مساعدات كبيرة قام بها متمولون يونانيون، لبناء الملاعب.
ومنذ أن انطلقت الدورة الأولى العام 1896 أقيمت حتى الآن سبع وعشرون دورة أولمبية صيفية بشكل فعلي، والدورة القادمة في ريو ستكون رقم 31، مع احتساب الدورات الملغاة عددياً، إذ أن خلال تلك السنوات شهد تنظيم الأولمبياد تأثراً كبيراً بالحروب والسياسة وأحياناً أعمال العنف، فغابت دورات 1916 و1940 و1944، بداعي الحربين العالميتين، فيما شهدت دورة موسكو 1980 مقاطعة من الولايات المتحدة، والدول التي تتبعها سياسياً، وكان الرد في دورة 1984، حين قاطع السوفيات، ومن يدور في فلكهم السياسي، دورة لوس أنجليس كردّ على الأميركيين، قبل أن يلتئم الشمل من جديد في دورة سيول 1988.