السلسلة الأولمبية 1: أساطير الإغريق قِيَم عابرة للعصور
تملك الألعاب الأولمبية كما نعرف اسمها اليوم تاريخاً عميقاً جداً، سبر أغواره يأخذنا إلى 1500 عام قبل الميلاد في التاريخ الإغريقي مع حكايات متعددة حول الآلهة والأبطال.
زاهر الحلو
من هنا لا تاريخ محدد يمكننا الاستناد إليه، بل مجموعة من الأقاصيص يرجّح بعضها على الآخر، إلا أن المعترف والمقر به حول البداية المكتوبة الأولى للألعاب تعود للعام 776 قبل الميلاد، حين اجتمع ملوك اليونان واستشاروا كهنة المعابد، فكان أن أطلقوا الألعاب التي كانت تتخذ قبل ذلك التاريخ أبعاداً دينية وروحية تكريماً للآلهة بمفاهيم آنذاك.
ولم تكن الألعاب الأولمبية، قبل تبلورها فيما بعد، المهرجانات الوحيدة التي نظمها اليونانيون، فالعديد من الاحتفالات الأخرى كانت تقام منها المهرجانات البوثية، وهي ذكرى قهر الإله أبولون لثعبان بيثون، والمهرجانات الإثيمية تكريماً لإله البحر، والمهرجانات النيمية تكريماً لابن ملك قتله ثعبان، والمهرجانات الإليوسية نسبة لمدية إليوسيس، لكن أياً من هذه المهرجانات لم يسطع نوره على الوهج الأولمبي، لكن يمكن القول إنها شكلت تعاقباً أفضى في النهاية لولادة فكرة الألعاب الأولمبية.
أهداف النشأة
اجتمعت أهداف شتى حول نشأة تلك الألعاب من أبرزها بالإضافة إلى تمجيد الآلهة وفقاً لمعتقدات ذاك الزمان، أن حكام بلاد الإغريق، التي كانت مقسمة إلى ولايات متحاربة ذات استقلال سياسي واقتصادي، وجدوا في فكرة الألعاب ضالتهم المنشودة من أجل لم شمل المقاطعات الإغريقية وإعلان الهدنة ووقف الاقتتال، فكان ذلك المهرجان الرياضي الذي دأب اليونانيون على إقامته كل أربعة أعوام.
وأطلق على هذه الأعوام اسم أولمبياد، وهي كانت بمثابة مقياس زمني لدى قدماء اليونان، فكان الزمن يقاس بالأولمبياد وليس بالسنين، ويرمز الأولمبياد إلى الفترة التي انقضت بين دورتين متتاليتين.
وكانت الاحتفالات تقام على جبل أولمبيا المقدس عند قدماء اليونان غرب جزيرة بيلوبونيسس، في ستاد ضخم يتسع لأربعين ألف متفرج، حوله مبان شيدت تباعاً استعملها الرياضيون للتدريب، والحكام مقاراً لهم، وخلالها كان يعم الإخاء اليونانيين فيتوافدون بأعداد كبيرة للمشاركة في الحدث الجلل الذي كان له أبعاداً أخرى أبرزها تكريم كبير الآلهة زوس.
ولم يكن الحضور يقتصر على أبناء الإغريق المقيمين بل أيضاً المنتشرين في أماكن بعيدة، كما لم تكن النشاطات رياضية فقط بل تتعداها إلى دينية وثقافية وفلسفية، وفي خلالها تعلن الهدنة ويتوقف الاقتتال لفترة تصاعدت تدريجياً مع السنين حتى بلغت من الشهور ثلاثة، منها شهر يسبق بدء الألعاب وذلك إفساحاً في المجال للإعداد لها.
هدنة مقدسة
لم يكن مسموحاً أثناء سير الألعاب أن يحدث أي اقتتال بل كانت الهدنة إلزامية مقدسة وشاملة، وكان يعاقب كل من يحاول عرقلة سير الألعاب أو إعاقة وافدين للمشاركة، ففي ذلك "تجاوز إلهي" بمفاهيمهم، كما ألغيت الخوات التي كانت دويلات اليونان تفرضها على عابري السبيل في أراضيها، فنتج أمان واستقرار نعمت بهما شعوب الإغريق الأمر الذي سمح لها في تقديم وإبراز حضارة عريقة للعالم تبلورت مع السنين، فكانوا السباقين بأفكار خلاقة، مبدعة سبقت شعوب العالم ومهدت بعدها لألعاب التاريخ الحديث.
شغف اليونانيون بالمهرجان الرياضي ليس وليد الصدفة، فذاك الشعب آمن بأن بناء الكيان والوطن يكون ببناء الجسد وترويضه وتعويده على الكفاح والصبر والجلد والتحمل وإكسابه القوة والصلابة لحماية أرضه، فارتبطت الرياضة بمفهوم التربية لديهم، ودخلت في مبادئ إعداد النشء، ومما زاد من ولعهم تغليفها بغطاء ديني، فكان الرياضي الذي يفوز يرجع نصره لفضل من الإله أو الآلهة، وهذا الأمر كان ذو شأن عظيم، بل لا يوجد ما هو أعظم من حياة القداسة وعبادة الآلهة في معتقداتهم، لذا اختلط الدين بالرياضة، وكان التمازج الذي أثمر الهدن المقدسة.
تغييرات متتالية
شهدت الألعاب بعد ولادتها تغييرات عدة فكانت في البداية تقام ليوم واحد ثم أصبحت تجري على مدار خمسة أيام بعد أن ذاع صيتها فزاد المقبلون على المشاركة من اليونانيين المغتربين في مناطق بعيدة مثل إيطاليا وسواحل أفريقيا.
واشتملت مسابقاتها الرياضية التي زادت تدريجياً على الجري ورمي القرص والرمح وسباق الأحصنة والعربات والمصارعة وسباق الدروع. ويذكر أنه لم يكن مسموحاً للمرأة أن تحضر المنافسات خاصة أن بعض الرياضات كالمصارعة تجري بين رياضيين عراة، لكن يرد الذكر في بعض الروايات أن امرأة وحيدة استطاعت متنكرة حضور الاحتفالات وكانت أماً لأحد الأبطال، فلم تعاقب نظراً لأن العديد من أفراد عائلتها أبطالاً، وللبطل مكانة عظيمة لا تمس.
أما المشاركون الذين كان يسمح لهم في خوض المسابقات فعليهم أن يتحلوا ببعض الصفات، أبرزها:
- أن يكون الرياضي حراً، أي غير عبد
- أمضى عشرة أشهر في التدريب قبل الاشتراك
- بالغ السن
- يتمتع بسيرة حسنة وسلوك حميد بين أوساط شعبه
- أن يكون عضواً في المجتمع السياسي فذلك يزيد من مكانته
- كما يفترض بالمشارك أن يتعهد بعدم خرق الهدنة المقدسة تحت أي سبب كان
لكن وبصورة عامة كان هنالك أحياناً بعض الاستثناءات من ناحية المشاركين تمنح في أطر معينة يؤذن لها من السلطات، وكان يحضر المشارك إلى مكان الألعاب قبل شهر من بدايتها، حيث يخضع لفحوصات تشمل التأكد من جذوره اليونانية، ومن توافر سائر الشروط فيه، وطبعاً لم تكن المرأة مخولة بالاشتراك.
تنظيم مذهل
وما زاد الألعاب تميزاً التنظيم العالي والشاق الذي دمغها، فكانت الوفود تأتي بأعداد كبيرة جداً تضم خيرة رجالات الولاية من حكام ورياضيين ومفكرين وفلاسفة وكهنة وساسة ونبلاء وكان لكل وفد تراتبيته الهرمية والتنظيمية، وكان للقضاة المختارين من أهل مدينة إليس (أولمبيا تقع في ولاية إليس) وفقاً لاتفاقية الهدنة بين الدويلات لباسهم الخاص الذي يميزهم، وكان يحرم كل رياضي يغش من المشاركة مدى الحياة إضافة لغرامة مالية كبيرة توظف لبناء تماثيل وأخرى بدنية، وكانت الوفود تنطلق قبل ثلاثة أيام من بدء الألعاب من مدينة إليس، باتجاه أولمبيا ويترأس الموكب الكبير ملك إليس وحكامها.
وتستكمل الحلقات التنظيمية لتشتمل على البرنامج الأولمبي المعد سلفاً والموزع على خمسة أيام كالتالي:
- في اليوم الأول تقام الطقوس الدينية المتنوعة والصلوات واستعراض القضاة وتقديم الهدايا للمعبد والقسم الرياضي
- في اليوم الثاني تبدأ المنافسات منذ الصباح، وتقام مسابقات الملاكمة والجري لمسافات مختلفة، مثل عدو الجمنازيوم مرة أو اثنتين أو أربع... (طول الجمنازيوم 192م) والمصارعة.
- في اليوم الثالث سباقات العربات والخيول ومسابقة البنتاتلون، وتشمل رمي الرمح ورمي القرص والوثب والجري والمصارعة،
- في اليوم الرابع فتقام احتفالات دينية لأنه يتزامن مع اكتمال القمر وتقام مسابقات عدو لمسافات متنوعة وملاكمة واختبارات للقوة عبارة عن نزالات شرسة للغاية دون السماح بالقتل.
- في اليوم الأخير ابتهالات دينية وتقديم قرابين للإله زوس.
أما الجوائز فبعد أن كانت تفاحة في البداية باتت غصن زيتون على شكل إكليل يوضع على رأس الفائز، إضافة لامتيازات شرفية عوضاً عن احتفالات الولاية بأبطالها وتمجيدهم لدرجة تفوق الوصف، بحيث أن الفوز كان أقصى وأشرف ما يمكن تحقيقه عند اليونان، الذين استطاعوا تنظيم 293 دورة أولمبية على مدار 1169 عاماً، منذ سنة 776 ق.م حتى سنة 393 ب.م تاريخ توقيف هذه الألعاب على يد الأمبراطور الروماني ثيودوس، بعد أن سيطر الرومان على اليونان، وقد اعتبر، أي الأمبراطور، هذه المهرجانات عادات وثنية، منهياً تاريخاً عريقاً من الحضارة والتميز، بقي مدفوناً حتى جاء البارون الفرنسي بيار دو كوبرتان وبعثه مستلهماً منه البعد الإنساني والأخلاقي والوحدوي.
خلاصة القول
ما يستوقف في هذا الجزء من حضارة اليونان الغنية والدسمة، أفق الرؤية النير والواضح والعميق لدى هذا الشعب، فعلى الرغم من الحروب الدائمة والكبيرة وجدت اسبرطا وأثينا وطيبة وغيرها من الولايات ما يسمون به عن القتال، وإن كان بإطار وثني آنذاك، لكن خلاصات تجارب اليونان، هي قيم حية لكل زمن، مثل الشرف والنزاهة واحترام القوانين والنبل والولاء والتربية الجسدية الرياضية وغيرها، كلها أمور ننادي بها دوماً، وقد نادوا بها منذ مئات الأعوام، وخير دليل على هذا الكلام أن تلك الألعاب شكلت الأرضية لأفكار كوبرتان بعد أكثر من ألف وخمسمائة عام على توقفها.